بناية الأمل .. مسرح بداية أحداث قصتنا والمحور الأساسي فيه.
بناية حديثة نسبياً في حي هادىء من المنطقة الخضراء في ضواحي المدينة، تسكنها بعض العائلات المتوسطة الحال، والتي تصارع في هذا الزمن القاسي الذي لا يرحم من أجل البقاء وتوفير لقمة العيش لأفرادها وأبنائها.
وعائلة العم فهيم هي واحدة من هذه العائلات. عائلة طيبة تتألف من ثلاثة أبناء يعيشون مع والديهم العم فهيم وزوجته سارة. أما لماذا سمي بالعم فهيم فلهذا قصة طويلة ربما نتطرق لها فيما بعد، كما سنتطرق لاحقاً للعائلات الأخرى التي تسكن هذه البناية.
وسام، الإبن الأكبر، في الثامنة عشر من العمر، يعشق الطائرات ويرغب بدخول كلية الطيران هذا العام بعد أن أنهى دراسته الثانوية بتقدير مرتفع. وبالإضافة لعشقه هذا، تحتل ابنة الجيران التي تسكن في الشقة المجاورة مكاناً بارزاً في قلبه، برغم حيائه الذي يمنعه من التقرب منها كما يرغب.
سمر، شقيقته التي تصغره بعامين، ما تزال في المرحلة الثانوية. كل من يراها يشعر أنها غريبة الطباع، وأن سراً دفيناً تحمله في أعماقها، وما يدفعهم للتفكير بذلك هي نوعية الموسيقى التي تحب سماعها، والتي تكاد تكون أشبه بموسيقى الحواة أو الأساطير الغامضة، وتملأ غرفتها باسطوانات وقصاصات مجلات تعود للفرق التي تعزف أغانيها المفضلة.
أما وائل، الإبن الأصغر، فهو في العاشرة من عمره، ما يزال صغيراً على العشق أو على تكوين ذوقه الموسيقى الخاص، ويكفي لإسعاده أن يأخذه والداه للنادي ليقضى وقتاً ممتعاً مع رفاقه في حوض السباحة وغيرها من النشاطات الرباضية المختلفة.
جلس العم فهيم على مقعده الوثير أمام التلفاز، وفتح جريدته المفضلة وراح يقلّب صفحاتها باسترخاء بحثاً عن خبر سياسي يستحق التعمق فيه. كان اليوم عطلة، ولم يكن هناك في الوقت الحالي أفضل من تمضية اليوم مع العائلة في المنزل، خاصة أن زوجته ذهبت لزيارة صديقة لها في البناية، ولا يمكن الخروج مع العائلة الآن بدونها.
وفجأة ..
كانت سمر تخرج من غرفتها بشكل يوحي أنها لا ترغب لأحد أن يلاحظها أو يشعر بها، ولم تنتبه أن والدها كان قد طالعها بالفعل من بين الشتلات الكثيفة التي تفصل غرفة الجلوس عن الردهة المؤدية لغرف النوم، ويبدو أنها لم تنتبه أن والدها كان جالساً هناك بالفعل يراقبها دون أن تدري.
أثارت تصرفات ابنته كامل انتباهه، وشعر بشىء من القلق نحوها، فطوى صفحات الجريدة ووضعها جانباً، ونهض من مقعده ليحاول أن يلحق بابنته التي دخلت الحمام وأغلقت الباب خلفها.
خطى داخل الردهة واقترب من باب الحمام المغلق. هل يستدعي دخول الحمام كل هذا الحذر الذي لمسه من ابنته؟
وقف بجانب باب الحمام وحاول أن يسترق السمع، وفكر أن ينادي على ابنته، لكنه التفت ليطالع باب غرفة نومها مفتوحاً، فخطى نحوه ليدخل غرفتها، محاولاً البحث عن شىء لا يعرف ما هو.
ليس هنالك ما يريب ...
غرفة أخرى تملأها الفوضى المعتادة في كل غرف نوم الشباب ....
في احد الاركان استقر جهاز تسجيل حديث .. اشترته "سمر" الصيف الماضي ... وفوقه استقرت بعض الاسطوانات الموسيقية ...
اقترب من المكتب الصغير الذي تستخدمه للدراسة وبحث بعين فاحصة مدققة على اي شيء قد يبدو مريبا او غير عادي ....
تفقد بعينيه السرير والمنضدة بجانبه .. انحنى قريبا من السجادة باحثا عن اي شيء يشير إلى ان ابنته تدخن او تتعاطى شيء ما .....
في النهاية لم يجد شيئا يذكر ...
ما سر تصرفها المريب هذا اذن؟؟؟؟ اتخفي شيئا؟؟؟ ربما ......
لا شيء هنا يختلف عن غرفة أي شابة أخرى ...
ربما فقط اذا ما استثنينا الموسيقى الهادئة الغريبة المنبعثة من جهاز التسجيل وملصقات الفنانين والشخصيات الاجنبية المعلقة على الجدران و ...........
عدل "فهيم" من وضعية منظاره الطبي وهو يطالع بإهتمام احدى الصور الملصقة على الجدار بجانب السرير ...
هل يمكن ان ................... ؟؟
تراجع خطوة إلى الخلف ... والقى نظرة أخرى إلى بعض الصور الأخرى المعلقة ...
ثم عاد ليدقق في الصورة الاولى مجددا ....
تمتم لنفسه بصوت خفيض : - " كيف لم انتبه لهذا من قبل؟؟ "
- " مــــاذا تـــــفعل هــــــنا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تمالك العم فهيم نفسه بالكاد ..التفت الى ابنته في هدوء مصطنع و هو يقول :
حضرت لكي أطلب منك اعداد كوب من الشاي .......والدتك لم تعد من زيارتها بعد.
دخلت سمر الى الغرفة في خطوات رشيقةو حالت عمدا بينه و بين تلك الصورة قائلة في توتر :
كان يمكن أن تنتظرني بالصالة يا أبي حتى أنتهي من حمامي ....
هز كتفيه قائلا :
لم أسمعك و أنت تغادرين غرفتك .........على كل لا يوجد ما يمنع من زيارة غرفتك بين آن و آخر..........أليس كذلك ؟
خيل اليه أن لهجتها حملت قدرا من التهكم وهي تجيبه :
بالطبع يا أبي .
غادر الرجل الغرفة متجاهلا الالتفات الى الصورة..........و قال :
الي بالشاي سريعا.
جلس الأب يفكر في تلك الصورة العجيبة .........شعر أن الموضوع أكبر من ادراكه, لا مناص اذا أن يستشير أحد من المتخصصين .......تذكر عندها د. رائف.......ذلك الرجل الغامض الذي يسكن في البناية نفسها في الطابق الأخير...لكم يكره التعامل معه......لكن يبدو أنه الوحيد الذي يقدر على مساعدته.
" الشاي يا والدي "
انتزعته عبارة سمر من أفكاره...............انصرفت بعدها بلا مبالاة
جلست سمر بعد ان انتهت من إعداد كوب الشاي لوالدها فهيم حائره هل السبب الحقيقي وراء دخول والدها الي حجرتها الشاي ام شيئا آخر
ظلت تسال نفسها حائره هل اكتشف الامر ؟ هل عرف به ؟ هل راي الصوره ؟
جلس فهيم يفكر هل اذهب الي استشار ه هذا الدكتور تقيل الظل ولكن يبدو انه لا مناص من استشارته لانه يخشي علي ابنته ويريد التاكد مما يدور في ذهنه من مخاوف تجاه ابنته
وهنا اتخذ فهيم قراره بانه عند عوده والده سمر سوف يتحجج باي شيء حتي يذهب اليه وحتي لايلفت اليه النظر ولا يقلق والدتها حتي يتحقق من الامر
ما أن جائت سارة حتى وجدت زوجها يقول في سرعة:
ألم تطلبي مني بالأمس أن ندعو الجيران الى حفل شاي بمناسبة حصول وسام على بطولة الدولة في رياضة ......ما هي الرياضة التي حصل على تلك البطولة فيها؟
فغرت زوجته فاها غير مصدقة ................لكنها أجابت بتلقائية :
الكونغ فو !!!!
اعتدلت فجأة وهي تسأله في تعجب شديد :
و منذ متى تشجع الاختلاط بالجيران ؟؟
عدل الرجل منظاره الطبي في توتر و هو يقول :
منذ قررت أن أستريح من الحاحك.........
عادت سارة تقول بنفس الدهشة :
لكني أشرت الى ذلك بشكل عابر ........و اعترضت أنت قائلا أنك لا تريد أن يعتاد الأولا................................
قام فهيم و هو ينفض يديه مقاطعا اياها :
هل سيسعدك الحفل أنت و هم أم لا؟
قامت و هي تجيب بالطبع !!!!
نظر في ساعة الحائط قائلا :
اذا ادعو أسرة كل من جمال و نسيم .و صديقتك تلك و زوجها .أما أنا فسأدعو السيد محسن و الدكتور رائف.............
أسرعت الزوجة تقول اترك دعوة محسن و ابنته ياسمين الى وسام ...سيحب أن يفعل هذا بنفسه بالتأكيد .............
لوح الرجل بيديه قائلا في عجل :
فليكن ...............
غادر الشقة و هو يقول لنفسه أنه لن يجد حجة أفضل ليدخل الدكتور رائف منزله دون أن يقلق زوجته أو ينتبه أولاده أو الجيران لشيء.
لم تتمكن زوجته من اللحاق به لتسأله عن ميعاد الحفل..........فقد أغلق المصعد قبل أن تنطق باسمه.!
استقل المصعد حتى الطابق الأخير و غادر يتلفت حوله ........توجه الى شقة الدكتور و دق الجرس .خيل اليه أن الجرس يعوي............!!!!!!!!!!!!!
مرت دقائق بدت له طويلة قبل أن يستجيب له الرجل .....
" يا الهي !!!!!!!!.......ان له شارب جدير بوغد كما اعتاد جمال أن يقول ....."
" أي خدمة؟"
جاءه صوت الرجل هادئا و لا مباليا . و كأن زيارته هذه - العجيبة بكل المقاييس - مجرد زيارة عادية للغاية ........و لو كان بائع اللبن لاحتفى به أكثر !!!!
حاول أن يرسم ابتسامة مصطنعة على شفتيه وهو يقول: السلام عليك ..كيف حالك وحال الأسرة.
أجاب الكتور مرة أخرى بهدوء ووجه لا مبالي يثير الغضب: بخير..ليس هذا سبب زيارتك بالتأكيد.
استمر العم فهيم في الضغط على أعصابه وابتسامته تتمد بلا شعور..
" وهل بين الجيران مواعيد..نحن إخوة يا رجل..ألو أخبرك أن ابني وسام حصل على بطولة الكونغ فو الدولية؟...
كان ينتظر بعد تلك الجملة تغيراً ولو يسيراً في ملامح ذاك الجدار الرابض أمامه..
بدا الموقف سخيفاً لا يحتمل..وهو يتابع الإجابة بهدوء دون اهتمام: مبروك.
كاد العم فهيم أن ينفجر داخله" يا إلهي أيخشى ذلك الرجل أن يتفوه بكلمة إضافية"
لكنه كتم غيظه وتابع:
" لأجل تلك المناسبة السعيدة أحببتُ أنيشاركني الأحبة فرحتي..في أمسية هادئة الليلة.. نجدد فيها علاقتنا الأخوية التي كادت الأيام تنسينا إياها.. بالطبع أحببت أن تكون أول المدعوين".
ردّ عليه _ ولأول مرة وهو يغير معالم وجهه_ :
" أحببت ذلك لكني أعتذر منك فلدي موعد في الخارج الليلة..أعوضها في فرصة قادمة إن شاء الله.. إن استطعت القدم فلن أتأخر".
شعر العم وكأنه قد أهين بما فيه الكفاية..فأجابه وهو يخفف من حدة ابتسامته:
" لا بأس.. نرحب بك في أي وقت"
غادر وهو يحاول البحث عن خطة بديلة ليتمكن من استشارته في الموضوع
وبينما هو في طريقه للمصعد ثانيةً.............................
................................................
سمع صوت الدكتور رائف يناديه بهدوء : استاذ فهيم , هل حقا كانت هذه الزيارة لانك ترغب فى دعوتى الى حفلك الليلة ؟
استدار العم فهيم مرة اخرى ليواجه الدكتور رائف و اجابه محاولا ان يبدو هادئا : طبعا , و هل يوجد سبب اخر .
اعتقد هذا , كانت هذه هى اجابة الدكتور رائف الذى تابع بعدها : نحن جيران من مدة طويلة نعم , و لكنى اعرف جيدا انك لست من محبى الاختلاط بالجيران الا فى حدود ضيقة و لعل هذا هو الشئ المشترك بيننا لانى انا الاخر امقت الاختلاط بالجيران . و لكنك الان تاتى و تدعونى الى حفل بمناسبة حصول ابنك على بطولة رياضية ما . لا اظن انها السبب الحقيقى فى زيارتك لى فعلى حد علمى لقد فاز ابنك بكثر من بطولة و لم تقم بعمل اى حفلات . اذن دعنى اسالك مرة اخيرة هل من سبب اخر لزيارتك ؟ و صدقنى ان لم ترد القول فهو شانك تماما . انا من اكبر مؤيدى الحرية الشخصية .
قال هذا و ابتسم . و عندها رد العم فهيم : فى الحقيقة انت صادق تماما , ليس الحفل هو السبب الحقيقى , الواقع ان السبب الحقيقى للحفل هو ان اتمكن من زيارتك و ليس فوز وسام ابنى بهذه البطولة .
اذن تعال ندخل مرة اخرى , قالها الدكتور رائف مبتسما و هو يشير بيده الى شقته , و اردف : و ارجو ان تخبرنى بالسبب الحقيقى لزيارتك .
و فى غرفة سمر , كانت الاخيرة لا تزال تفكر فى دخول ابيها الى غرفتها , هلى راى الصورة ام لا و ان راها , هل لفتت انتباهه , هل يفهم ما تعنيه حقا , ثم ما سر هذا الحفل الغريب الذى قرر ان يقيمه فجاة و ان يدعو اليه الدكتور رائف بالذات و هى تعلم ان ابيها لا يرتاح كثيرا لهذا الجار الغامض . لا لقد راى ابيها الصورة و لهذا السبب اخترع هذه الحيلة لكى يزور الدكتور رائف و يساله . منذ فترة كانت لا تنتبه لهذه الاشياء البسيطة و لكن الان , منذ ان تلقت الدعوة الغامضة فقد تعلمت جيدا الانتباه الى كل ما حولها , و ابتسمت لنفسها فى هدوء و هى تقول : حسنا يا ابى انر كيف يفيدك الدكتور رائف ؟؟ ثم رفعت عينيها الى الصورة , و ازدادت ابتسامتها اتساعا .
تطلع العم فهيم فى صمت الى البخار المتصاعد من كوب الشاى امامه ثم تطلع الى لدكتور رائف الذى لم يتغير التعبير الجامد على وجهه منذ عادوا الى الشقة , و لكن الدكتور رائف قال له : و لهذا جئت الى .
رد العم فهيم : الحقيقة نعم انت الوحيد الذى اعرفه و الذى يمكن ان تكون عنده فكرة ما عن هذه الامور , البنايه كلها تقول انك , ثم قطع كلامه و هو ينظر الى الدكتور فى حرج . و الذى ابتسم فى سخريه و هو يتابع : يقولون انى غريب الاطوار اليس كذلك .
بلى , قالها العم فهيم فى حرج .
تابع الدكتور رائف : حسنا اكره ان اوصف بهذا , و ان كان ليس هو موضوعنا الان , انت تريد رائى فى امر ابنتك . ربما الامر لا يعدو اكثر من تخيلات مراهقة تريد ان تلفت اليها الانظار , و ربما ايضا الامر اخطر من ذلك , لا يضرنا ان نتحقق . ساطلب منك ان ترتب لى لقاء مع ابنتك , زيارة عادية حتى لا نثير الشكوك . اعتقد ان فكرة الحفل مناسبة . و ارجو ان استطيع الحديث معها وحدنا قليلا قبل ان اعطيك رايئ فى الامر . حسنا سالقاك فى هذا الحفل يا استاذ فهيم .
قالها و نهض . فنهض العم فهيم ايضا شاعرا بالحرج . و عند الباب قال له اشكرك يا دكتور رائف انك قبلت مساعدتى فى هذا الموضوع . فاجاب الدكتور رائف : لا شكر على واجب . ثم ان الامر اثار انتباهى حقا . اراك فى الحفل . و بعد ان اغلق الباب همس الدكتور رائف لنفسه : هل انت حقا مراهقة حمقاء تتسلى بامور خطيرة لا تقدرها يا سمر ام ان الامر اخطر من ذلك , ارجو من كل قلبى ان تكونى حمقاء اخرى لان البديل مخيف مخيف كثيرا . و شرد بذهنه و هو يتذكر امر ا مرعبا واجهه منذ عدة سنوات .
الى القاء فى الجزء الثانى