بَين يَدَيْ السُّورَة *
سورة الإِخلاص مكية، وقد تحدثت عن صفات الله جل وعلا الواحد الأحد، الجامع لصفات الكمال، المقصود على الدوام، الغني عن كل ما سواه، المتنزه عن صفات النقص، وعن المجانسة والمماثلة، وردت على النصارى بالقائلين بالتثليث، وعلى المشركين الذين جعلوا لله الذرية والبنين.
توحيد الله وتنزيهه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) } سبب نزول السورة: أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: {
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *
اللَّهُ الصَّمَدُ *
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}.
{
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستهزئين: إِن ربي الذي أعبده، والذي أدعوكم لعبادته هو واحد أحد لا شريك له، ولا شبيه له ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو جل وعلا واحد أحد، ليس كما يعتقد النصارى بالتثليث "الآب، والابن، وروح القدس" ولا كما يعتقد المشركون بتعدد الآلهة
قال ابن جزي: واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معانٍ، كلها صحيحة في حقه تعالى:
الأول: أنه واحد لا ثاني معه فهو نفيٌ للعدد.
والثاني: أنه واحد لا نظير ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد في عصره أي لا نظير له.
والثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض.
والمراد بالسورة نفي الشريك رداً على المشركين، وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته تعالى، وذلك كثير جداً، وأوضحها أربعة براهين:
الأول: قوله تعالى {
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}؟ - وهذا دليل الخلق والإِيجاد - فإِذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات، لم يصح أن يكون واحد منها شريكاً له.
والثاني: قوله تعالى: {
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وهو دليل الإِحكام والإِبداع.
والثالث: قوله تعالى: {
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} وهو دليل القهر والغلبة.
الرابع: قوله تعالى {
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} -وهو دليل التنازع والاستعلاء ثم أكد تعالى وحدانيته واستغناءه عن الخلق فقال: {
اللَّهُ الصَّمَدُ} أي هو جل وعلا المقصود في الحوائج على الدوام، يحتاج إِليه الخلق وهو مستغنٍ عن العالمين
قال الألوسي: الصَّمد السيدُ الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمدُ إِليه-أي يلجأ إِليه- الناسُ في حوائجهم وأمورهم{
لَمْ يَلِدْ} أي لم يتخذ ولداً، وليس له أبناء وبنات، فكما هو متصف بالكمالات، منزَّه عن النقائص قال
المفسرون: في الآية ردٌّ على كل من جعل لله ولداً، كاليهود في قولهم: {
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} والنصارى في قولهم: {
الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وكمشركي العرب في زعمهم أن {
الملائكة بنات الله} فردَّ الله تعالى على الجميع في أنه ليس له ولد، لأن الولد لا بدَّ أن يكون من جنس والده، والله تعالى أزلي قديم، ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يكون له ولد، ولأن الولد لا يكون إِلا لمن له زوجة، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى: {
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} ؟! {
وَلَمْ يُولَدْ} أي ولم يولد من أبٍ ولا أُمٍ، لأن كل مولود حادث، والله تعالى قديم أزلي، فلا يصح أن يكون مولوداً ولا أن يكون له والد، وقد نفت الآية عنه تعالى إِحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لا ابتداء لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره {
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي وليس له جل وعلا مثيلٌ، ولا نظير، ولا شبيه أحدٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} قال ابن كثير: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريب يدانيه ؟ تعالى وتقدَّس وتنزَّه، وفي الحديث القدسي (يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إِياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إِعادته، وأما شتمه إِياي فقوله:
اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وأنا الأحد الصمد، الذي
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ).